في لحظةٍ ما من حياتك، قد تنظر في المرآة لتجد نفسك مختلفًا. لا لأنك تغيرت، بل لأنك رأيت لأول مرة من تكون فعلاً. المقال التاسع يأخذك في رحلة العودة إلى الذات، تلك الرحلة التي لا تحدث بعد الشفاء، بل أثناء النزيف… بصمت.
![]() |
في خضم المعارك النفسية، نتوه. نركض خلف إجابات، نعلّق نجاتنا على أشخاص أو ظروف أو نوايا. ثم يحدث ما لا نتوقعه: نسقط بصمت، فنكتشف أن لا شيء سيتحملنا سوانا. هنا تبدأ رحلة العودة إلى الذات. لكنها ليست عودة مألوفة… بل عودة مشوشة، خجولة، كما لو كنا نزور شخصًا غريبًا يحمل اسمنا.
اللحظة الفاصلة لا تكون ضجيجًا بل سكونًا.
لا يسبقها إنذار، بل شعور داخلي أن المعركة انتهت — ليس لأننا انتصرنا، بل لأننا لم نعد نرغب في القتال.
1. عندما تلتقي بذاتك لأول مرة بعد كل شيء
ليس غريبًا أن تقول بعد سنوات: "أنا مش أنا".
لأنك بالفعل تغيرت.
النسخة التي خلقتها الحياة فيك بعد التجربة، لا تشبهك.
لكنها أصدق من كل ما كنت تتظاهر به سابقًا.
العودة إلى النفس لا تكون لحظة واحدة، بل سلسلة من الومضات:
- عندما ترى وجهك في مرآة وتشعر أن عينيك نضجت.
- حين تتوقف عن لوم الآخرين لأنك لم تعد تهتم بإثبات شيء.
- عندما تتصالح مع الماضي، لا لأنه انتهى، بل لأنه لم يعد يُؤلمك كما قبل.
2. النضج الصامت: القوة التي لا تُرى
ليس النضج أن تصبح أقوى، بل أن تتوقف عن الرغبة في إثبات قوتك.
أن تدرك أن الردّ بالصمت أحيانًا أكثر فاعلية من آلاف الكلمات.
أن تتوقف عن إرضاء الجميع وتبدأ بالاستماع لصوتك الداخلي.
من علامات النضج الصامت:
- أنك لا تسعى للشرح… بل تفهم نفسك فيكفيك ذلك.
- أنك لا تبحث عن التقدير… لأنك تعلم قيمتك دون تصفيق.
- أنك لا تسعى لانتقام… لأنك أكبر من أن تعود لنقطة الألم.
3. الغفران الداخلي… لا يعني النسيان
أن تغفر لا يعني أن تنسى. بل أن تمنح نفسك حرية ألا تعيش في الدور المُجَرح.
الغفران للنفس أهم من الغفران للآخرين، لأنه يبدأ من اعترافك أنك أخطأت… ولكنك تعلمت.
كيف تغفر لنفسك؟
- توقف عن اجترار التفاصيل.
- سامح ضعفك في لحظات الانكسار.
- واعترف أنك كنت تحاول، وهذا وحده يستحق الاحترام.
4. حين تكتشف أن وحدتك ليست ضعفًا
في مرحلةٍ ما، تصبح الوحدة اختيارًا لا فرضًا.
لأنك لم تعد تحتمل العلاقات المزيّفة، والحوارات المملة، والضحك الذي لا يُشبهك.
الصمت يصبح لغة راقية، والعزلة تتحول لمكان آمن.
لم تعد تبحث عمن يسمعك، بل عمّن يفهم سكوتك.
وهذا وحده كافٍ لتعرف أنك عدت إلى نفسك… وربما للمرة الأولى تُحبّ ما وجدت.
5. الحياة بعد العاصفة ليست كما قبلها
بعض العواصف لا تدمّر… بل تُعيد الترتيب.
تمحو ما لا فائدة منه، وتكشف لك هشاشة ما كنت تظنه صلبًا.
ما يحدث بعد العاصفة:
- رؤيتك تصبح أوضح، لأن الدموع غسلت غبار الاندفاع.
- خطواتك تصبح أبطأ، ولكن أكثر وعيًا.
- كلماتك أقل، لكنها تحمل معنى.
لقد تعلمت أخيرًا أن الصمت بعد العاصفة… هو أول دليل على أنك نجوت.
6. أنت لا تعود كما كنت، بل كما يجب أن تكون
الهدف من الرحلة لم يكن أن تعود كما كنت، بل أن تخلق ذاتك من جديد.
أن ترى الأمور بعين الحكمة لا الاندفاع.
أن تفهم أن الهدوء قوة، وأن الغياب موقف، وأن النسيان قرار.
أنت الآن نسخة أكثر صدقًا، أقل مجاملة، وأقرب إلى حقيقتك.
وهذه أقوى نقطة يمكنك أن تصل إليها: أن تحب نفسك… دون مكياجها.
الخاتمة:
أن تعود إلى ذاتك لا يعني أن تستعيد ما كنت… بل أن تقبل بما أصبحت.
رحلتك لم تكن عبثًا.
كل ألم كان جزءًا من عملية التشكيل.
كل خيبة أعادتك نحو مسارك.
وكل صمت… كان حوارًا داخليًا يقودك إلى الحقيقة.
رحلة سكون تقترب من نهايتها… ولكن هدوءك الآن ليس كما بدأ.
إنه هدوء من فهم، لا من وجع.
سكون من حكمة، لا من هروب.
المقال السابق:
رحلة سكون (8): حين تُنقذك العزلة من الضياع وسط الزحام