رحلة السكون (2): حين يصخب الصمت وتبدأ الهروب من ذاتك

"أحيانًا لا يكون الضجيج في الخارج… بل في داخلنا. في لحظة ما، تجد نفسك تركض من شيءٍ لا تراه، وتهرب من ذاتٍ تناديك بصوتٍ خافت… هذا هو الصخب الذي لا يُسمع، لكنه …

وليد حسانين
المؤلف وليد حسانين
تاريخ النشر
آخر تحديث

 "أحيانًا لا يكون الضجيج في الخارج… بل في داخلنا.

في لحظة ما، تجد نفسك تركض من شيءٍ لا تراه، وتهرب من ذاتٍ تناديك بصوتٍ خافت… هذا هو الصخب الذي لا يُسمع، لكنه يُنهك."

رحلة العودة إلى الذات والسكينة النفسية
صورة تعبّر عن لحظة الصمت الداخلي حين يبدأ البحث الحقيقي عن الذات."

رحلة السكون (2): حين يصخب الصمت وتبدأ الهروب من ذاتك

هل صادفت يومًا صمتًا يربكك؟ صمتٌ لا يشبه السكون، بل يحمل ضجيجًا لا يُسمع، كأنه يصرخ في داخلك بينما الخارج يبدو هادئًا؟

ذلك هو الصمت الذي لا يُطمئن... بل يختبئ فيه خوفٌ قديم، وحنينٌ مبهم، وأسئلة كثيرة مؤجلة. هناك، في منتصف هذا الصمت، تبدأ رحلة الهروب من الذات.

ما هو الصمت الصاخب؟

في علم النفس، يُشار أحيانًا إلى ما يُعرف بـ "الضوضاء الداخلية" (Internal Noise)، وهي حالة من الاضطراب النفسي الذي لا يُعبَّر عنه بالكلمات، بل يُحسُّ في الجسد، وفي التعبيرات اليومية، وفي الانسحاب التدريجي من الذات.

تبدأ بالشعور أن هناك شيئًا ليس على ما يرام، لكنك لا تعرف ما هو. تزداد رغبتك في العزلة، ليس حبًا في الهدوء، بل هروبًا من مواجهة أفكارك. تُطفئ الأنوار باكرًا، وتُغلق الهاتف كثيرًا، وتبتسم تلقائيًا للناس، لكن داخلك يتهالك.

هل يعني ذلك أنك تائه؟

في الحقيقة، لا. لكنه مؤشر مهم.

إن الهروب من الذات لا يحدث فجأة. بل هو تراكم صامت للخذلان، والإنكار، والتعب، والتأجيل العاطفي. كل مرة قلت فيها "مش وقته أفكر" كانت خطوة في اتجاه الانفصال عن صوتك الداخلي.

ما علاقة الإيمان بالسكون؟

في لحظات الضياع، يبحث الإنسان عن شيء ثابت لا يتغير، لا يخونه، لا يغيب. وهنا يظهر الإيمان كحبل نجاة. لكن ليس الإيمان الموروث، بل الإيمان الحيّ الذي يُوقظ فيك نور الطمأنينة.

قال ابن القيم: "في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله".

علم النفس لا ينفي دور الروح، بل يُقِرُّ أن الطمأنينة ترتبط أيضًا بتوازن القيم والهوية، والاتصال بشيء أكبر منك.

لماذا نهرب من أنفسنا؟

  • لأننا نخشى المواجهة.
  • لأن في داخلنا آلامًا مؤجلة.
  • لأننا لا نعرف من نكون فعلًا إذا سكت الضجيج.
  • لأننا ربطنا قيمتنا برأي الآخرين، لا بصوتنا الحقيقي.

كيف تبدأ العودة؟

  1. راقب حديثك الداخلي: ما هي الجمل التي تكررها؟ هل تُشعرك بالأمان أم تُقلقك؟

  2. اكتب دون ترتيب: افتح ورقة واكتب، لا تهتم للتنظيم. دع ذاتك تتكلم.

  3. خصص وقتًا للصمت الواعي: اجلس في هدوء، لا تهرب للموبايل أو الموسيقى. دَعْك تستمع.

  4. استعن بإيمانك: ليس مطلوبًا أن تكون مثاليًا، فقط قُل: "يا رب دلّني على نفسي".

  5. اطلب المساعدة إن احتجت: لا عيب في أن تمتد يدك لطبيب نفسي، أو لصديق حكيم.

مثال من الواقع:

في دراسة نُشرت في مجلة Psychology Today، ذُكر أن أغلب الأشخاص الذين يُعانون من القلق المزمن، لا يُدركون أنهم يهربون من ذواتهم عن طريق الانشغال المفرط. وكلما زاد الصمت الخارجي، زادت حدة المواجهة المؤجلة.

أحد المشاركين قال: "لم أكن أعرف أنني خائف من الجلوس وحدي... حتى جلست وحدي." وهذا هو مفتاح الشفاء: الاعتراف.

رسالة المقال:

حين يصخب الصمت، لا تغلق الباب. بل اسأله: ماذا تريد أن تقول لي؟

قد تندهش من الإجابة... وقد تبكي. لكن تلك الدموع، بداية العودة.

في الختام:

لا بأس أن تضيع لبعض الوقت، لا بأس أن تهرب حينًا، لكن لا تجعل الهروب هو البيت.

خذ نفسًا عميقًا... وتذكّر: السكون الحقيقي لا يخيف. بل يُنقذك.

فقط إن صبرت عليه.

— هذا المقال هو الجزء الثاني من سلسلة رحلة السكون، يمكنك قراءة المقال الأول من هنا: رحلة البحث عن السكون: لماذا لا نجده رغم اشتياقنا له؟

وانتظرنا في المقال الثالث: حين تتكلم كل الأشياء إلا أنت...


تعليقات

عدد التعليقات : 0